فعلى مستوى السياسية الداخلية، لم تكن الاستحقاقات المحلية التي شهدتها البلاد يوم 31 مارس الماضي، محطة انتخابية عادية ضمن الأجندة السياسية للدولة، بقدر ما كانت اختبارا حقيقيا لقطبي المشهد السياسي في البلاد، ممثلين بتحالف الشعب المكون من حزب الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي راهن على الفوز بها من أجل مواصلة تسيير البلاد، على المستوى المحلي والحكومي والرئاسي، وتحالف الأمة لأحزاب المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري، الذي توخى الظفر بها لضمان حضور أقوى داخل الساحة السياسية، ووضع حد لانتصارات انتخابية متتالية حققها الحزب الحاكم منذ سنة 2002.
وكما كان متوقعا، فقد تعاطت الأحزاب السياسية التركية مع هذه الاستحقاقات على أنها معركة حقيقية خاصة في المدن الكبرى، وأساسا بأنقرة وإسطنبول، بوصفهما إحدى القلاع الانتخابية للحزب الحاكم. هذه الانتخابات التي تمت إعادتها باسطنبول بعدما قررت اللجنة العليا للانتخابات إلغاء نتائجها، بناء على طلب من الحزب الحاكم، أعطت، مجددا، الفوز لمرشح المعارضة الشاب أكرم إمام أغلو على حساب منافسه القيادي بالحزب الحاكم ورئيس البرلمان السابق بنعلي يلدرم.
نتائج هذه الانتخابات وإن أسفرت عن تفوق الحزب الحاكم من حيث عدد البلديات التي سيشرف عليها وطنيا (52 بالمئة)، إلا أنها لم تمنحه فوزا في بعده الرمزي، بعدما انتزعت منه المعارضة بلدتي أنقرة وإسطنبول بعدما تولى تدبيرها لمدة 25 سنة.
سياسيا، أيضا، تودع تركيا سنة 2019 على إيقاع انشقاقات وإقالات واستقالات تشوش على صورة حزب العدالة والتنمية، الذي طالما اعتد بتراص وتماسك صفوفه كنقطة ارتكاز لموقعه بالمشهد السياسي، وذلك عقب إعلان قياديين مؤسسين بارزين ناضلوا لسنوات في صفوفه الأمامية وتقلدوا مسؤوليات هامة، عن تأسيس حزب جديد حتى قبل متم السنة، ومن أبرزهم رئيس الوزراء سابقا أحمد داوود أغلو، ووزير الاقتصاد نائب رئيس الوزراء سابقا علي باباجان.
وبالفعل، لم يكن لإعلان أحمد داود أوغلو يوم 13 دجنبر الجاري، عن حزبه الجديد الذي يحمل اسم "حزب المستقبل"، وقع المفاجأة على الرأي العام في تركيا.
الوافد الجديد على الساحة السياسية التركية وعد بإصلاحات تشمل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والقضائية والأمنية، وشدد على أنه سيعمل على تعديل جذري لدستور البلاد، حيث لم يخف معارضته للنظام الرئاسي القائم فقط، بل أبدى تأييدا واضحا للعودة إلى النظام البرلماني بعد إجراء تحسينات عليه.
السياقات والمواقف التي صاحبت الإعلان عن تأسيس حزب أو ربما حزبين جديدين (فالأمر لم يتضح بعد، مع بروز أكثر من تيار غاضب) من رحم حزب العدالة التنمية، تؤشر، بما لا يدع مجالا للشك، على وجود أزمة داخل هذا الأخير. أزمة لم تنحصر داخل هياكل الحزب، بل خرجت إلى العلن بعد إقدامه على طرد أعضاء وازنين لانتقاداتهم اللاذعة لطريقة تدبير الحزب والدولة، التي لم تتمكن، في نظرهم، من تجاوز الصعوبات الاقتصادية. وبالفعل عجلت خسارة الحزب لرئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول، بما تحملانه من رمزية سياسية وثقل اقتصادي وتاريخي، من الطلاق السياسي بين الحزب وقيادييه.
غير أنه وبالنسبة لمتتبعي الشأن السياسي الداخلي، لن يكون لهذه الانشقاقات، بالضرورة، تأثير "كارثي" على صورة الحزب الحاكم الذي يفوق عدد أعضائه العشرة ملايين، وذلك لعدة اعتبارات أبرزها؛ طول المدة الزمنية المتبقية عن أقرب محطة انتخابية التي ستكون رئاسية سنة 2023، وعدم تأثير الاستقالات على الأغلبية البرلمانية لهذا الحزب، والأداء المحدود لمعارضة "مشتتة"، وحفاظ اردوغان على مكانته كزعيم سياسي بشخصيته القوية وتاريخه النضالي وإنجازاته لفائدة تركيا الحديثة، والذي ما يزال يحظى بتأييد كبير داخل حزبه.
وقبل متم السنة الجارية، يستعد حزب الشعب الجمهوري المعارض لعقد مؤتمره العام كمحطة تنظيمة حاسمة له في خضم صراع محتدم على الزعامة، وهو الذي يدبر المرحلة السياسية الراهنة، بقدر كبير من الحذر، مثابرا لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الحلفاء، خاصة مع ما يروج مؤخرا من حديث عن إمكانية تنظيم استحقاقات مبكرة.
ففي سياق معادلة معقدة يسعى الحزب الى تقوية تحالف الأمة، من خلال الحفاظ على التوازن في تدبير علاقاته مع كتلة حزبي "الجيد" و"السعادة"، وحزب الشعوب الديموقراطي الكردي من جهة، ومحاولة استمالة الحزب الجديد لأحمد داود أوغلو والآخر المنتظر لعلي باباجان من جهة أخرى، بالرغم من إدراكه لتوجهاتهما الإيديولوجية والسياسية التي تؤطرها أدبيات ومبادئ الحزب الحاكم. (يتبع)
اقتصاديا، يمكن القول بأن 2019 كانت السنة التي خرجت منها تركيا، القوة الاقتصادية الصاعدة إقليميا، من عنق الزجاجة بعد الأزمة الخانقة التي عصفت بها أواخر 2018، عقب الخلاف الحاد مع الولايات المتحدة بسبب قضية القس الأمريكي أندرو برونسون، وما ترتب عن العقوبات الأمريكية حينئذ من هزات اقتصادية كبيرة، أفقدت الليرة التركية أكثر من 40 في المئة من قيمتها (غشت 2018).
وبالفعل، فقد كانت هذه السنة حبلى بالاختبارات لمناعة الاقتصاد التركي تجاوزتها البلاد، داخليا، بإجراءات استعجالية لضبط سعر الفائدة (12 في المئة في دجنبر 2019) ودعم النمو ( 0,9 في المئة في الربع الأخير من السنة)، والتحكم في مستوى التضخم (12 في المئة مع متم السنة) وتراجع عجز التجارة الخارجية (51,84 بالمئة على أساس سنوي)، ونسبة البطالة (13,3 في المئة في شهر يوليوز)، فضلا عن أداء قوي لقطاعات واعدة كالصادرات (165 مليار و67 مليون دولار خلال الأشهر الـ11 الأولى من سنة 2019، + 1.77 بالمئة)، والسياحة مدعومة بافتتاح مطار إسطنبول الدولي (أزيد من 41.6 مليون سائح خلال الأشهر ال9 الأولى من 2019 بعائدات بلغت 26,63 مليار دولار).
وخارجيا، من خلال الانفتاح على شراكات إقليمية متعددة الأطراف ومتنوعة المرامي، حققت بفضلها تركيا تقدما ملموسا في تطلعاتها النووية؛ وفي مشاريعها العملاقة في مجال الطاقة، مع استكمال، في أكتوبر 2019، القسم البحري من أنبوب "السيل التركي"، لنقل الغاز الطبيعي من روسيا عبر قاع البحر الأسود إلى تركيا، وربط خطي أنابيب "تاناب" و"تاب" الإقليميين العابرين للبحر الأدرياتيكي؛ واستكشاف تركيا لأسواق جديدة، لاسيما في إفريقيا، وإرسائها لتكتلات مع اقتصادات أسيوية صاعدة كماليزيا وأندونيسيا، فضلا عن الاستثمارات القطرية التي وصلت هذه السنة إلى 23 مليار دولار.
على الصعيد الإقليمي، كانت الأزمة السورية خلال سنة 2019، من أبرز وأعقد ملفات السياسة الخارجية التي كان على أنقرة تدبيرها، بقدر كبير من الحذر والجرأة، على المستويين الداخلي والخارجي، ولاسيما بعدما لم تحقق الاجتماعات والمسارات الاقليمية (أستانا وسوتسي) والقمم الدولية (الرباعية التركية الفرنسية الألمانية الروسية) النتائج المرجوة منها.
على المستوى الداخلي، لم تؤيد بداية كل مكونات المشهد السياسي تدخلا عسكريا للجيش التركي في الشمال السوري، نظرا للكلفة السياسية والاقتصادية الباهظة للعملية، وخارجيا لم تنظر القوى الإقليمية، خاصة روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بعين الرضا للعملية، إدراكا منها أن نجاحها سيمكن تركيا من ضبط الواقع السياسي والأمني والاقتصادي للمنطقة، وسيقوي حضورها كفاعل إقليمي لا محيد عنه في أي تسوية كانت للأزمة.
تركيا، التي ضاقت درعا بالأعداد المتزايدة للاجئين السوريين (نحو أربعة ملايين لاجئ)، وبعد تلقيها الضوء الأخضر الأمريكي، بناء على حسابات جيو-سياسية وشبكة مصالح معقدة، أطلقت عملية "نبع السلام"، في 9 أكتوبر 2019، بمعية الجيش الوطني الحر، لإنشاء منطقة آمنة تمتد لمسافة 30 كلم في العمق السوري، بهدف القضاء على إرهابيي "بي كا كا/ ي ب ك" و"داعش"، والحيلولة دون إنشاء ممر إرهابي على حدودها الجنوبية، للحفاظ على أمنها القومي وتأمين عودة هؤلاء اللاجئين إلى بلدهم.
وفي سياق جيو-سياسي مضطرب، عرفت سنة 2019، أيضا، إتمام تركيا لصفقة منظومة الدفاع الصاروخي الروسي "إس 400"، رغم المعارضة الشديدة للولايات المتحدة وحلف "الناتو"، إذ تحولت هذه الصفقة من مجرد رغبة أنقرة في تعزيز منظومتها الدفاعية، إلى ورقة ضغط سياسية ستشهرها في ما بعد للتحكم في موازين القوى داخليا وإقليميا، وحتى دوليا.
غير آبهة بوعيد الولايات المتحدة بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية عليها وبتهديد حلفاء "الناتو" بإعادة النظر في عضويتها داخل الحلف، كون المنظومة تقوض أمنه الداخلي، مضت تركيا قدما واستكملت الصفقة وأكدت على لسان رئيس دبلوماسيتها أنها اقتنت الصواريخ الروسية لاستخدامها لا لتخزينها، بل والأكثر من ذلك يدور الحديث في الآونة الأخيرة عن قرب الاتفاق على اقتناء منصات جديدة من المنظومة ذاتها، والتفاوض على صفقة مقاتلات "سوخوي 35 و57 الروسية" بديلة عن مقاتلات "إف 35" الأمريكية.
على صعيد آخر وباستثناء اجتماعات تقنية على مستوى كبار المسؤولين، لم تحمل هذه السنة الجديد في ما يتعلق بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، خاصة بعد تصريح المفوضية الأوروبية، في ماي 2019، بأن آمال تركيا في عضوية الاتحاد بدأت في التلاشى، وذلك على الرغم من التقارب المحتشم بين أنقرة وبروكسيل بسبب الدور الذي تضطلع به تركيا في كبح تدفقات اللاجئين نحو أوروبا وقضايا مكافحة الإرهاب.
تركيا تقلب صفحة 2019، وقد اقتنصت نقطة هامة في تنافسها المحتدم على استكشاف الموارد الطاقية الواعدة شرق البحر الأبيض المتوسط. فبتوقيعها مع ليبيا على اتفاق أمني عسكري للدفاع المشترك وترسيم حدود مناطق النفوذ البحرية، تكون تركيا قد حققت في ذات الوقت مكسبا سياسيا واقتصاديا لا يستهان به، ودفعت باليونان، الجارة التي تعول كثيرا على دعم الاتحاد الأوربي والناتو في علاقاتها المتوترة مع تركيا، إلى طرد السفير الليبي في ما اعتبره الكثير من المراقبين تسرعا لآثينا في التعاطي مع ملف شائك.