رسائل الرئيس الأمريكي المنتخب لتركيا دائما ما كانت واضحة ومباشرة وغير ودية؛ فبايدن، لم يتوان في توجيه انتقادات لاذعة لسياسات أنقرة ومواقفها حول قضايا إقليمية ذات بعد استراتيجي حيوي، لاسيما دورها في أزمات سوريا وليبيا وشرق المتوسط وجنوب القوقاز، واقتنائها لمنظومة الصواريخ الروسية "إس 400"، وأيضا حول تغاضي سلفه دونالد ترامب عن طموح تركيا لأن تصبح فاعلا إقليميا قويا في منطقة شديدة الأهمية والحساسية بالنسبة لمصالح واشنطن.
كما أن تصريحات بايدن المناوئة لتركيا ليست بالجديدة ولم تقف عند هذا المستوى، بل وصلت حد وصفه في تصريح لوسائل إعلام محلية خلال حملته الانتخابية، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ "المستبد الذي يتعين إيقافه عند حده من خلال دعم قوى المعارضة التركية للوصول إلى الحكم"، ليأتي الرد التركي سريعا وحادا أيضا، على لسان المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالين الذي أكد أن ما يردده بايدن "ينم عن الجهل المطلق والغطرسة والنفاق (..) أيام توجيه التعليمات لتركيا قد ولّت".
وتشكل هذه الرسائل والرسائل المضادة مقدمات تمهد لحقبة قد توصف بالصعبة في مسار العلاقات التركية الأمريكية، على اعتبار أن موقف بايدن بدا صارما حول ملفات ثنائية وإقليمية بالغة الحساسية من شأنها توجيه الأمور نحو مواجهة بين شريكين استراتيجيين تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، وبالمقابل، كون تركيا تعكف على بحث تقاطبات إقليمية جديدة على أكثر من جبهة، تضمن بها نوعا من التوازن ولما لا الاستقلالية عن واشنطن.
العلاقات التركية الأمريكية في عهد بايدن.. التواصل المباشر على المحك
بالرغم من طابعها الاستراتيجي، لم تحقق العلاقات التركية الأمريكية في عهد ترامب-إردوغان تقدما نوعيا أثمر تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية أو حل أزمات إقليمية تخص البلدين معا، إلا أنها على الأقل تمكنت من تجنب الأسوء، أي اندلاع مواجهة مباشرة بين الجانبين كما حصل في قضية القس الأمريكي أندرو برونسون، وذلك بفضل تمكن رئيسي البلدين من تطوير بعض التوافقات، وإبقائهما على خط تواصل مفتوح يُفَعل في الأوقات الحرجة (درع الفرات)، وهو الأمر الذي، كما يتوقع العديد من متتبعي الشأن السياسي التركي، لن يكون متاحا لأردوغان مع جو بايدن.
وفي هذا الصدد، يقول أستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي سمير صالحة، "مع بايدن ستكون العلاقات التركية الأميركية أمام امتحان جديد يختلف كثيرا عن أسلوب ترامب-أردوغان اللذين نجحا في بناء علاقات شخصية حالت دون انفجار الأزمات والذهاب نحو القطيعة الكلية".
وفي مقال بعنوان "أنقرة-واشنطن.. صباح اليوم التالي"، سجل الأكاديمي التركي أن "ما ساهم في الحيلولة دون قطع شعرة معاوية بين أنقرة وواشنطن هو الحوار الشخصي المباشر بين الرئيسين، ترامب وأردوغان"، لافتا إلى أن ترامب لم يعط الرئيس التركي كل ما طالب به في ملفات سوريا وشرق المتوسط والكيان الموازي، وتفهم ضرورات صفقة "إس-400" الروسية، لكن أردوغان معرّض لخسارة فرص الاتصال برئيس أمريكي ساعة ما يشاء".
مع الإدارة الأمريكية الجديدة.. سلاح العقوبات خيار وارد
معطى آخر ينبغي استحضاره عند استشراف العلاقات التركية الأمريكية في المرحلة المقبلة والذي من المحتمل أن يزيد من حدة التوتر بينهما، ويتمثل في كون بايدن سيقود الولايات المتحدة بأغلبية ديمقراطية في الكونغرس؛ وهو الذي أكد، في أكثر من مناسبة، أنه رجل مؤسسات، ومن الضروري تفعيل دورها، واحترام قراراتها.
وفي هذا الصدد، تعود إلى الواجهة إمكانية تفعيل مشروع "كاتسا"، الذي ينص على معاقبة الدول التي تتلقى الإمدادات العسكرية من روسيا، الذي أقره الكونغرس في حق تركيا حول مسألة منظومة الصواريخ الدفاعية "إس 400"، ولم يطبقها ترامب مبديا تفهمه للجانب التركي، الذي تعهد بعدم تفعيل المنظومة؛ أما الآن وقد أقدمت تركيا مؤخرا على اختبار المنظومة في مدينة سينوب على البحر الأسود، فإنه من المؤكد أن الأمر سيكون له ما بعده.
أما ثالثة الأثافي، فتتمثل في طبيعة الإدارة التي سيعتمدها بايدن لتدبير الشأن الأمريكي، ولاسيما الشخصيات التي ستتولى إدارة ملفات السياسة الخارجية؛ وفي مقدمتها مستشار الأمن القومي ومن سيتولى مهمتي الخارجية والدفاع.
وحسب مراقبين، فإن الفاعل الأول والأهم، بعد بايدن في البيت الأبيض، سيكون مستشار الأمن القومي، وفي حال صدقت التوقعات باختيار بايدن أنطوني بلنكين، مستشاره وصديقه المقرب لهذا المنصب، فإن هذا الأخير يعد من بين أكثر الساسة الأمريكيين إلماما بالشأن التركي، والأكثر قدرة على تحليل نقاط القوة والضعف لدى كل طرف خلال مناقشة الملفات الثنائية والإقليمية.
وفي هذا الصدد، اعتبر الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية والاستراتيجية طه عودة أوغلو، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أنه من المبكر جدا الحديث عن مستقبل العلاقات التركية الأمريكية في ظل قيادة بايدن، قبل التعرف على فريق عمله الجديد وخصوصا مستشار الأمن القومي.
وأبرز أنه من الواضح جدا، بناء على مواقف بايدن السابقة من تركيا خلال الأعوام الماضية، أنه يعتبرها بلدا يقوض المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة بعد تقارب أنقرة وموسكو وحصولها على منظومة صواريخ "إس-400" الروسية، وأيضا مساعي أنقرة للتنقيب عن الغاز والنفط شرق المتوسط، بالرغم من معارضة واشنطن وبروكسيل.
ملفات حساسة على طرفي العلاقة التركية الأمريكية
في قادم الأيام، سيكون على الإدارة الأمريكية الجديدة التعامل، عندما يتعلق الأمر بتركيا، مع ملفات استراتيجية حساسة لها ارتباطات إقليمية متشابكة الأبعاد والمصالح، على اعتبار أن بايدن لن يتسامح مع العمليات العسكرية التركية في سوريا، التي تبررها أنقرة بالتصدي لتسلل الإرهابيين إلى حدودها الجنوبية، ولن يتخلى عن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق الفرات، كونه من أشد المساندين لها.
على نفس المنوال، من المتوقع أن يتدخل بايدن بقوة في أزمة شرق المتوسط لصالح الدول التي تصطدم مع أنقرة بشأن ترسيم جرفها القاري، وهي الأزمة التي كادت أن تتفاقم إلى مواجهة عسكرية مباشرة أمام الرفض التركي التراجع عن أعمال التنقيب بالمنطقة. بايدن كان قد طالب ترامب بالضغط على تركيا للتخلي عن مشاريعها الطاقية لتخفيف التوتر مع اليونان، وكخطوة تعكس رغبته في تعزيز المصالح الأمريكية مع البلدان الغربية.
كما أنه من المتوقع ألا يتقبل الرئيس الأمريكي الجديد وإدارته أي شكل من أشكال التنسيق الاستراتيجي التركي الروسي الذي توازن به تركيا علاقاتها مع الغرب، ولا أدل على ذلك الحملة التي قادها في الكونغرس من أجل فرض عقوبات على تركيا بعد إبرامها صفقة الصواريخ "إس 400" مع موسكو.
وإلى جانب ذلك تضم الملفات الموضوعة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة، استبعاد أنقرة من أي جهود دبلوماسية في الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ، وفكرة سحب الأسلحة النووية من قاعدة "أنجرليك" العسكرية التركية.
على الطرف المقابل، فإن أنقرة لا تتوقع تحقيق تقدم في مسار العلاقات الثنائية، ما لم يتم الحديث عن مشاريع حلول لإشكاليات مزمنة في هذه العلاقات، وخاصة تسليمها زعيم تنظيم "غولن" الذي تتهمه بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الأخيرة، وكف واشنطن عن دعم الأكراد على الحدود السورية والعراقية، وتوضيح موقف واشنطن بخصوص صفقة المقاتلات "إف 35"، والتوقف عن تهديد تركيا بورقة العقوبات الاقتصادية والتعامل معها كشريك استراتيجي له كلمته في موازين القوى بالمنطقة.
وبناء على ذلك، فإنه من المؤكد أن العلاقات التركية الأمريكية ستدخل في حقبة بايدن، منعطفا جديدا يتسم بتدافع شرس على تحقيق أكبر قدر من المصالح وتثبت النفوذ، وبناء التحالفات، وفق معادلة جديدة من حيث المعطيات والتوجهات وحتى القناعات السياسية والإيديولوجية.
وإلى حين الإعلان الرسمي عن انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، ستتناسل التكهنات وستتباين القراءات حول مستقبل العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، غير أنها ستلتقي عند قاسم المصالح المشتركة، المتمثل في خبرة بايدن الطويلة في السياسة الخارجية التي لن تخونه في التقليل من نفوذ تركيا وقوتها في المنطقة، وفي حنكة أردوغان السياسية التي لن تخونه في تقدير المخاطر السياسية لتحركاته المستقبلية.